سورة آل عمران - تفسير تفسير ابن القيم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)}
هذا مثل ضربه اللّه تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعة ربه ومرضاته.
فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء، وحسن الذكر، ولا يبتغون به وجه للّه، وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل اللّه وأتباع رسله- بالزرع الذي يزرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره، فأصابته ريح شديدة البرد جدا، يحرق بردها كل ما يمر عليه من الزرع والثمار، فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته.
واختلف في الصرّ. فقيل: البرد الشديد. وقيل: النار. قاله ابن عباس.
وقال ابن الأنباري: إنما وصفت الريح بأنها صر لتصويتها عند الالتهاب.
وقيل: الصر: الصوت الذي يصحب الريح من شدة هبوبها.
والأقوال الثلاثة متلازمة. فهو برد شديد محرق ليبسه الحرث، كما تحرقه النار وفيه صوت شديد.
وفي قوله: {صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} تنبيه على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظلمهم. فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة، حتى أهلكت زرعهم وأيبسته. فظلمهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها.
أما الخذلان:


{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}
وأصل الخذلان: الترك والتخلية، ويقال للبقرة والشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى وتركت صواحباتها: خذول.
قال محمد بن إسحاق في هذه الآية: إن ينصرك اللّه فلا غالب لك من الناس ولن يضرك خذلان من خذلك، وإن يخذلك فلن ينصرك الناس، أي لا تترك أمري للناس، وارفض الناس لأمري.
ولخذلان: أن يخلق اللّه تعالى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها والتوفيق ضده: أن لا يدعه ونفسه، ولا يكله إليها، بل يصنع له ويلطف به ويعينه، ويدفع عنه، ويكلؤه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه، فمن خلى بينه وبين نفسه فقد هلك كل الهلاك. ولهذا كان من دعائه صلّى اللّه عليه وسلّم: «يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك».
فالعبد مطروح بين اللّه وبين عدوه إبليس، فإن تولاه اللّه لم يظفر به عدوه. وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان، كما يفترس الذئب الشاة.
فإن قيل: فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب وبينها، وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه؟.
قيل: لعمر اللّه، إن الشيطان ذئب الإنسان، كما قال الصادق المصدوق، ولكن لم يجعل اللّه لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا، مع ضعفها. فإذا أعطت بيدها وسالمت الذئب ودعاها فلبت دعوته وأجابت أمره ولم تتخلف، بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة، وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل، ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدا لهم، فهل الذئب كل الذئب إلا الشاة؟ فكيف والراعي يحذرها ويخوفها وينذرها؟ وقد أراها مصارع الشاة التي انفردت عن الراعي، ودخلت وادي الذئاب.
قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب المجالسة: سمعت ابن أبي الدنيا يقول: إن للّه سبحانه من العلوم ما لا يحصى، يعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره لقد حدثنا أبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن سعيد القطان حدثنا عبيد اللّه بن بكر السهمي عن أبيه: أن قوما كانوا في سفر فكان فيهم رجل يمر بالطائر، فيقول: أتدرون ما تقول هؤلاء؟ فيقولون: لا، فيقول: تقول كذا وكذا فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق فيه هو أم كاذب؟ إلى أن مروا على غنم وفيها شاة قد تخلفت على سخلة لها، فجعلت تحنو عنقها إليها وتغثو، فقال: أتدرون ما تقول هذه الشاة؟ قلنا: لا. قال: تقول للسخلة: الحقي، لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان. قال: فانتهينا إلى الراعي، فقلنا له: ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا؟ قال: نعم ولدت سخلة عام أول، فأكلها الذئب بهذا المكان، ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها وهو يرغو، ويحنو عنقه إليها. فقال: أتدرون ما يقول هذا البعير؟ قلنا: لا. قال: فإنه يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وهو في سنامه. قال: فانتهينا إليهم. فقلنا: يا هؤلاء، إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته، ويزعم أنها رحلته على مخيط، وأنه في سنامه، قال: فأناخوا البعير وحطوا عنه، فإذا هو كما قال.
فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت. وقد حذر اللّه سبحانه ابن آدم من ذئبه مرة بعد مرة، وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه، ويبيت معه ويصبح {وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} [14: 23].


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}
فأمرهم بالصبر، وهو حال الصابر في نفسه.
والمصابرة: مقاومة الخصم في ميدان الصبر، فإنها مفاعلة، تستدعي وقوفها بين اثنين، كالمشاتمة والمضاربة- فهي حال المؤمن في الصبر مع خصمه.
والمرابطة، وهي الثبات واللزوم، والإقامة على الصبر والمصابرة.
فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط. وقد يصبر ولا يصابر، ويرابط من غير تعبد بالتقوى.
فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله: التقوى، وأن الفلاح موقوف عليها.
فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر، فهي لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان، فيزيله عن مملكته.

1 | 2 | 3